هناك أنشطة وسلوكيات يخشى الفلاسفة والأدباء والمفكرون الكبار الخوض فيها والكتابة عنها، فمثلاً عندما كتب الكاتب الكبير صلاح حافظ كتابه الرائع عن الجنس تم انتقاده، وخجل أن يطبعه مرة ثانية، وعندما كتب المفكر الكبير إدوارد سعيد عن تحية كاريوكا تساءل القراء هل مفكر بحجم إدوارد سعيد يكتب عن الرقص والمسخرة؟!وعندما كتب أديب أوروجواى الشهير جاليانو عن كرة القدم كتاباً يُعد من أروع ما كُتب عن تلك اللعبة ويضارع فى جماله رواياته، قالوا اللهو واللعب يكتب فيه كتاب كامل من أديب ننتظر أن يتفرّغ لرواياته؟!لذلك انتظرت فيلسوفاً مصرياً يتناول موضوع كرة القدم بمثل هذا العمق وعدم الخجل من اقتحام الفلسفة لغمار تلك الرياضة التى تتعمد بغبار الشارع وعرق الهواة الحفاة وصرخات الغاضبين المحبطين.أخيراً وجدت كتاباً لأستاذ الفلسفة د. ياسر قنصوة، وهو واحد من أساتذة الفلسفة الذين يتمتعون بحس أدبى راقٍ، الكتاب عنوانه «عالم مو، عندما يركل الفلاسفة الكرة»، والصادر عن دار ريشة، فى قطع صغير سهل الهضم مثل كتب الجيب، الكتاب شذرات وتأملات فلسفية فى عالم الساحرة المستديرة التي سرقت الضوء من كل الرياضات على هذا الكوكب، وصارت المغناطيس الذى يجعل ألبير كامو الروائي الفرنسي العالمي الوجودي الشهير، وعم خليل صاحب عربية الكشري يملكان الشغف نفسه!رحلة «د. قنصوة» رحلة السهل الممتنع، كل ما يدور فى ذهنك عن اللعبة ولم تستطع التعبير عنه ستجده فى هذا الكتاب الصغير، ستجده يشبه لعبة كرة القدم بلعبة الحياة، لعبة الحظ التى قد تنفلت فى لحظة فتغير كل التوقعات والمخططات، حتى فلسفة الأخلاق تلقى بجعبتها من الأسئلة على ملعب كرة القدم، حيث تتحول المبادئ الأخلاقية الراسخة إلى أخلاق متغيرة ونسبية، فالفريق الأفضل قد يخرج خالى الوفاض.فى الكتاب يتناول المؤلف مارادونا الذى لا يمكن أن تذكر كرة القدم إلا ويذكر مارادونا الذى يُلخص انتصارات وانكسارات الحياة وأحياناً عبثيتها، إنه معشوق الفلاسفة والصعاليك، إنه مارادونا الذى قال عنه الشاعر محمود درويش «ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟ ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله فى الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نُعلِّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمَّس بعدما أدمناه شهراً تحوَّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشاق؟ ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلِّق له تميمة، ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار؟».ويدهشنا الفيلسوف قنصوة بعقد مقارنة بين سقراط ومارادونا، فيقول إن هناك ملامح قربى من حيث التفرّد، وذلك الإحساس العابر للجماعات إلى وعى الفرد بنفسه الاستثنائية، مارادونا يقول «أنا صوت من لا صوت له».كان مارادونا فيلسوفاً رغم أنه لم يقرأ لنيتشه أو كانط!، وبالطبع ياسر قنصوة المصرى لا يمكن أن ينسى أو يتجاهل الأسطورة المصرية محمد صلاح، وبالنظرة الفلسفية نفسها لمارادونا، يكتب بالنَّفس الفلسفى نفسه عن «مو صلاح»، فيقول: لا يضع مو سقفاً لطموحاته، بل ينطلق فى صعوده إلى أقصى الحدود ويعمل بكل كيانه للاستمرارية فى الصعود، إنه الشعور الخاص والمتفرّد بأن هناك ما لم يتحقق بعد، تجاربه فى بازل، تشيلسى، فورنتينا، روما، وأخيراً ليفربول تؤكد أنه ما من شىء يوقفه عن التحليق بعيداً، ومن خلال خبرته بنفسه، وبالناس يلجأ إلى أمرين، الأول قلة أحاديثه الإعلامية، والثانى تغريداته التى تحتمل الغموض والدلالة معاً، إنها لعبة الأذكياء فى حضور الغياب».كتاب «عندما يركل الفلاسفة الكرة» يثبت أنه لا يوجد موضوع خارج عن نطاق البحث الفلسفى.